الصّائغ يوسف يصل إلى سيّدة التفّاحات الأربع

علي حسن الفواز

  هل يمكن استعادة شاعر بمستوى يوسف الصائغ الى السياق الشعري العراقي المضطرب وسط مهيمنات نقدية وسياسية وتاريخية طاردة؟ وهل يمكن لهذا الشاعر المغني ان يستعيد وجوده في النسق الشعري العراقي القهري الموزع على جغرافيات تشبه المقابر كثيرا؟ هذه الاسئلة قد تقترح لنا لحظة احياء طهرانية او اخلاقية لقراءة يوسف الصائغ بقطع النظر عن التوصيف السايكوباثي العالق باستيهام الاثام والخطايا التي يرى البعض انه ارتكبها بحق سسيولوجيا التاريخ والايديولوجيا وليس بحق الشعر. لقد مات يوسف الصائغ حزينا، مكسورا، متهما بخيانات شتى، لكن صوته ظل يملك شهوة سرية للغناء، وظل تاريخه الشخصي الذي يخصه

تماما نهبا لاوهام حروب شتى وقراءات لايمكن الركون الى مفسريها او حتى صنّاع نصوصها المشدودين الى العقائد كثيرا وكأنها الايقونات المقدسة.

 

كل الموتى يصبحون عاطلين عن التورط في لعبته الباردة بعد موتهم... لكن الشعراء يملكون استثناء في هذه اللعبة القاسية، لانهم وحدهم يهجسون بهذا الموت، يبصرون مبكرا ملائكته وشياطينه، ويتلمسون اصابعه الجحيمية وكأنها اعمدة من دخان، يبصرونه من وراء حجاب ويبادولنه الشتائم او المدائح دون خجل، او ربما يرمون عليه الحجر، لانهم الكائنات الاقرب الى سكنى وادي عبقر المثيولوجي العامر ببقايا المدن السحرية القديمة، يعرفون ما تضجّ به الرؤيا وما تشفّ عنه العبارة، يتحسسون اقدام العابرين لصوصا كانوا ام رؤساء حكومات ام زوارا للفجر!! لذا نجدهم يمارسون صحوهم بامتياز عند هبوطه المفاجئ والعجول.

قبل سنوات وعندما تناهت الينا اخبار موت يوسف الصائغ الشاعر والمغني والعاشق والرسام والمسرحي، ادركت ان الموت قد تخلص من سحرية لياقته القديمة، وجاء اليه بطريقة مريبة، اذ وقف عند يومياته العاطلة بكامل عدته وفؤوسه وببعض قداساته واناشيده المريبة ليمارس معه لعبته الباهضة.

لعبة التعرية والفضائح، اذ يضحك على كل مراثي وافراح تاريخه الشخصي الذي ظل مسكونا بالكثير من القلق والخوف والمناورة، ويرمي ماء النار على مدونات سنواته الشعرية المحتشدة بالكثير من الاوهام التي كان يصدّقها لوحده.

لم يكن الصائغ حزينا لتلك الزيارة السماوية المريبة، والغامضة، فهو ظل يحمل معه اخر قداسات بورخس، واخر قصائد كافافيس، اذ يستاف من غبارها رائحة حيوات برج بابل، وحوافر خيول البرابرة الذين يأتون بهوس لانهم آخر الحلول! وربما آخر احلام الوطن/ البيت الذي اصبح بريدا في القطارات.

الصائغ في لعبة الانتظار كان يموت ببطء كل يوم، يموت حزنا وكمدا ووجعا وخرابا واهمالا.

فقد بصره في سنواته الاخيرة ولم ير الاّ "خزائن صوره" القديمة المكسوة ببهاء الرؤيا والتي سحّ لاجلها الاف الكلمات والاف الاغاني وفقد اطمئنانه الشخصي بعد ان استوطنت الشيخوخة الجسد العصي ووغادرت اصابعه رعشات المرأة الاليفة، وهرب دونه الاصدقاء العابرون.

مات يوسف الصائغ في وطن يحسب احزانه وافراحه وجروحه وهزائمه مثلما يحسب البقالون تفاصيل دكاكينهم، الكلام لم ينقذه من قسوة هذا الموت، القصائد التي حملت اغانيه لم ترمم الطرق الى الجنة، تلك التي اصطنع طرقها العيارون والعداؤون وراكبو الدرجات كما قال مرة محمد الماغوط وهو يرثي السياب الميت.

اصحابه الطيبون القساة لايغفرون لاحد يشبهه خياناته الصغيرة، ولا يمدّون لاحد كفّ الاطمئنان، ولا يشاطروه بعض البكاء..

ازاء كل هذا مات الصائغ ولم يزل يحلم بقصيدة لامرأة قد تأتي من الباب الموارب، ترمي رائحتها، وتشاطره الجسد الدائخ بالسنوات الشائهة، او تحنو على اصابعه اليابسة من كثرة التحامها مع عصاه، رغم انه كان ينتظرها دوما عند "تخوم البحر".

مات الصائغ وهو متورط في نوبة بكاء، بكاء على الامكنة القديمة الضاجة باحلامه التي لم تخرج من صناديق القديسين، وبكاء على العمر الهارب كاللصوص، وبكاء على الزمن الشعري الذي تحول الى زمن اخر اكلت نصفه الكثير من الاوهام الشعرية والاوهام الحكومية والاوهام النسائية.

حين ماتت "سيدة التفاحات الاربع" اشتعل الرجل شعرا وخوفا وشيبا، لانها كانت امرأته الوحيدة التي تعرف طريق الحرير اليه.

تذكّر انه كان عندها يمارس بين يديها "اعترافات مالك بن الريب" لتشاطره اسرار احزانه ومراثيه وندائه، اذ كانت وحدة مالك بن الريب هي قناعه في متاهته وفي موته المحتمل.

اختلط بين يديه الموتان حتى صار الموت ربيبه الذي يبادله السكرة والصحوة والعبارة والرؤيا.

أحسبه كان يشطب سنواته في اجندته اليومية العاطلة لصق حائطه، يلعن يساره القديم لانه علمّه كيف يصنع احلاما عاطلة، ويلعن سجونه القديمة لانها اباحت جسده للجلادين والاعترافات السخيفة، ويلعن نساءه لانهنّ اجتحنّ جسده النحيف بكل شغب اللذة وشطارة حفاري القبور، يلعن السادة الحكوميين لانهم ورطوه بسكرة الخشخاش واحلام الملك السعيد، ويلعن الاصدقاء لانهم تركوه وحيدا عند حروب طاعنة بالخسارات، ويلعن المدن لانها اباحت دمه كثيرا وطردته من جنتها المعدنية.

مات يوسف الصائغ كالغرباء، ودفن في مقبرة لاتعرف الطريق الى البلاد، وكأن هذا الموت كان آخر الانساغ الشعرية التي ستمدّ في عروقه الماء المقدس والنجيع الصافي مع اجساد البياتي والجواهري وهادي العلوي ومصطفى جمال الدين.

مات يوسف الصائغ دون ان يأتي السيّارة الى جبّه البعيد، او يبادله الذئب قميص قدّ من الجهات الاربع، مات دون خزائن العزيز، ودون ان توافيه زليخا الوعد الاخير، مات دون منفى انيق وبارد مثلما يفعل الاخرون الهاربون والعاطلون عن الاشتعال، والذين يشتمون البلاد والعباد عند حاناتهم وصباياهم واوهامهم.

مات يوسف الصائغ دون ان يشتم احدا. لقد سرق اسرار لعبة الموت الاثيرة، وضحك على شفرته في مباغتة الاحياء. لقد كان يبصره عبر قناع "بورخسه" الشعري، وقف بانتظاره مثلما كان يفعل الفرسان الاسطوريون عادة. ما هذا زمن الشعر ولا هذا زمني هذا زمن مسدود يخرج منه الدود صار الشعراء قرودا فيه والعشاق يهود باركني بيديك الحانيتين وامنحني غفرانك ياوطني

 

تاريخ النشر

21/07/2012

  http://www.alnaspaper.com/inp/view.asp?ID=11410