English site www.aliamamdouh.com

"المعلم" إذ يرزم الأشياء ويبتهل أن ينسى

عالية ممدوح      الحياة     2004/07/4

تغير التشكيلي العراقي علي طالب بعد تسعين يوما قضاها في المدينة العالمية للفنون بباريس, هو قال ذلك. والحال, أن الأمر يتطلب الكثير من الملاحظات اللامتناهية لكي نتبع مشاريعه إلى أقصى النهايات, على الأقل, هنا, في هذه المدينة. إقامته منذ مطالع 1998 في هولندا جعلته يتابع حياته بقدر من الشعرية لكن بلا الغواية المدوّخة التي كانت بانتظاره في حي الفنانيين. باريس ألهمته, حدثني بذلك, لكن الالهام صار ملتبساً لا يلائم بعض المدن. لم أقل له ذلك خشية زعله. لكنه أضاف, هي عاصمة المجرة الشمسية.

حسناً, اننا نبالغ, ولم لا؟ هناك مدن تحتجب وراء الكلمات فتتعارك المفردات عليها, فتترك اللغة وحدها وتبقى المدينة بمفردها آسرة تراقبنا ونحن نبدو كالساعات المحطمة, زارها لأول مرة في 1975, وحين عاد إلى بغداد تحدث لطلابه في اكاديمية الفنون الجميلة عنها حتى "نشف ريقه". اليوم, باريس استبدلت اللعاب بالدم. لوحاته الباريسية دمرت أشياء كثيرة من طريقه وتدمرت ايضا بالايغال إلى الاقصى. بعد المجازر في المدن العراقية, شكلُ لوحاته التي عرضها على الاصدقاء ومن داخل المعرض الجماعي جعلنا نرى دم الفنان ينهض أمامنا كما لو أن المرء يدخل الزمن, يتآكل على ذلك النحو لكنه يقدر أن يدوّن ويشّكل حتى لو كان مضروباً بالأسيد. تماماً, علي طالب أكمل اكثر من أربعة عشر لوحة خلال الثلاثة شهور, وهذا مستحيل في نظام عمله. من المؤكد هو المكان, الاستديو الذي وفرته له مؤسسة المنصورية السعودية فاتحة ذراعيها له, ومن قبله للفنان العراقي رافع الناصري, ما جعله على هذا النحو من الانخطاف. لكن, هناك بقعة خوف لا يستطيع تفسيرها مما توصل إليه, مما جعله يبدأ في اغلب الاحيان بثلاث لوحات مرة واحدة. ذاك الموجود داخلنا, يبدو احيانا أكثر واعمق من ذاك الذي أنتج ووضعنا عليه عناوين شتى, تبدو احيانا متناقضة أو ناقصة, فنبدو كلما نعمل كلما نتوارى أكثر.لا يشرح الرسام, لا ذاته ولا اعماله على أي نحو كان. لكن طوفان الحسرات يمسكه من جوفه على الفن والفنانين العراقيين, على البلد, على مجموع ما نملك حتى لو كان في غير متناولنا. طالب, شاعر اللوحة والتقني المدهش, واذا شئتم, تليق به الاوصاف لكنه لا ينقاد إلى ذلك الفخ من ورم الأنا وتضخيمها. فلوحاته بدت لنا محمية بالرصاصي المعتم كما لو أن هذا اللون هو الذي يحز الاعناق ويجز منابت الروح, فشعرت في أحد الايام أن سحنته تغيرت ايضاً, ليس بسبب أبهة باريس وانما بسبب وفرة الموت هناك, في تلك البلاد. غريب, هنا, استطاعت هذه العاصمة إعادته إلى مدينته الأولى, البصرة, بوصفها رشيقة مغوية ومتراخية. وبصراه كانت هكذا, لا تسألي عنها اليوم, فالمكان شيء غير واقعي, هو لا يخضع للحدود الصارمة. قال: كنت أدير ظهري في بعض الاحيان للبصرة, هكذا غنجا ودلالا, لكن باريس لا تهتم بكل هذا, فهي تخرب القواعد وهي التي تحصل علينا وما نحن الا قصص عريانة. لكن يا علي, الإيروتيك في لوحاتك فيه شيء من الحشمة, المجامعات ناقصة, ربما تعبير فاشلة اكثر ملاءمة, اجساد النساء واعضاؤهن كأنهن دخلن الغيبوبة. في اكثر لوحاتك, في شذرات عشقك, سادية مهذبة, اما ذلك الافتتان بالجمال البلوري فتخطى الحدود وصار عصيا على البوح. أخيرا, قال بصوت خفيض, ما عليك الا الاستغناء عن مصاحبة الفنانين, هه, فهم ليسوا مناضلين, ما عادوا هكذا, خرجوا من السباقات بسبب ضيق النفس, بسبب التفسخ. بأسباب الكبح والقهر والضنى. لكني لم أفضل رفقة اولئك, أجبته بمزاح. نعود ونشاهد لوحة بعد اخرى. كأنه يتلذذ بالفراق, بالاقتلاع, بوفرة الترحال عن العراق وباريس وهو يرزم الموجودات والاشياء ويبتهل أن ينسى شيئا ما, شيئا غير مجرّب ولا مخترع ولا يشبع لا بفارق بسيط أو خارق. وأنا أدل عليه بصوت اخفض من صوته بـ"المعلم".